2::إنتقال الشاعر عيسى الشيخ حسن من سوريا الأرض الخضراء إلى قطر الأرض الصحراوية في هذا نوع من التضاد في إسلوب العيش هل لهذا التناقض أثر في أشعارك ؟ و ماذا مثلت الغربة لدى عيسى الشيخ حسن أدبياً وروحياً ؟
كانت الغربة بمعنى مفارقة المكان هماً إضافياً ، و مركباً صعباً اضطرتني إليه الحاجة ، بالإضافة إلى اغتراب المثقف عن مجتمعه بداعي الاختلاف الذي يعيشه معظم المبدعين ، البعد أضفى على المكان الأول هالة من السحر ، أنعش الحنين و الذاكرة ، كانت الذاكرة آلة تصوير بارعة ، جعلت التيمّم متاحاً ، بعد أن أفلتت من الحواس فرصة ملامسة الآخر ـ الغائب .
الفقد ، و القلق " قلق الوجود " حيث لم يتلاءم الكائن في الحقل الجديد ، ولم يعد صالحاً للعودة ‘لى هناااااك ...أنتج " يا جبال أوبي معه " الذي ترجم هذه الفترة خير تمثيل .
3::هناك حالة قطيعة بين المثقف والقارىء ..أصبحت هذه المشكلة مثار قلق من تأطر هذه العلاقة الإقصائية ..برأيك أين يكمن الخلل ..عند القارىء..أم المثقف ؟ وكيف تكسرهذا الحاجز في كتاباتك ؟
القطيعة مستمرة وتتفاقم ، فيما أطلق عليه " موت القارئ " بعد استعارة هذا العنوان من رولان بارت " موت المؤلف والتصرف فيه " ..اللإشكالية تأتي من إسراف النخبة في جنوحها إلى ملعبها الخاص ، والابتعاد المقصود في أحيان كثيرة عن القارئ ، أضف إلى ذلك عزوف القراء في العشرين سنة فائتة عن القراءة ، بتأثير عالم الصورة الذي طغى على عالم المقروء ، لمصالحة المشاهّد .
القارئ العادي وجد في عالم الصورة عبر قنواتها " التلفزيون ـ الكومبيوتر " ما يعوضه عن الكتاب .
خذ مثالاً متابعي مباراة للبرازيل سيجدون في اللعب اللاتيني من المتعة ما يعوضهم عن حضور أمسية شعرية ، أو مشاهدة برنامج الاتجاه المعاكس ما يعوض عن قراءة كتاب في نفس موضوع الحلقة ، أو مشاهدة مسلسل تاريخي " الزير سالم " ما يعوض عن قراءة كتاب تاريخي .
لسنا متشائمين تماماً ، ولكن يجب أن نعي حقيقة الأشياء ، وأن نستفيد منها ، كما نفعل في هذه المنتديات ذات التفاعل الحيوي ، التي تقدم لنا أسماء مبدعة كل حين ، وتعرفنا بهم .
عن نفسي فقد حاولت أن اقبض على طرفي المعادلة ، ولا أدري إن كنت نجحت ، ربما تم ذلك في ديواني الأخير " أمويون في حلم عباسي " .
بالمناسبة كتبت منذ شهرين تقريباً مقالة عن مديح الواضح ، استعرضت فيها تاريخ الإشكالية ـ عربياً ـ لعلي وفقت في ذلك ، أترك لكم فرصة المقال الذي نشر على حلقتين في الشرق القطرية .
في مديح الواضح " 1ـ2"
تساءل صديقي الشاعر : " متى تفهم زوجاتنا ما نكتب ؟ " ، أحسسنا بجّدة السؤال وجدّيته ، بالرغم من أنه ظلّ دائماً مثار نقاش و خصومة بين مختلف المدارس الأدبية ، حتى أثاره من جديد صديقي الشاعر الذي ظلّ يجتهد في رسم صور شعرية جديدة ، تتيح له أن يكتسب صوته الخاص بين الأصدقاء ، و في المشهد الشعري عموماً .
يحيل سؤال الصديق إلى ثنائية الوضوح والغموض التي ألهت النقاد منذ أبي تمام حتى الآن ـ عربياً ـ ، كدليل على تلك النقلة النوعية في الحياة العربية من الوضوح ـ البداوة ـ إلى الغموض ـ المدينية ـ حيث شهدت الحياة العربية انتقالا ً من ثقافة الشفاهي المروي إلى الكتابي المنقول ، و ما رافق ذلك من حركة المثاقفة الواسعة بين الأمم التي دخلت في دين الإسلام ، وما نتج عنه من ترجمة واسعة لتراث الأمم المغلوبة . بالإضافة إلى تعقيدات حياة المدينة ، كل هذا حول بيت الشعر العربي ، من بيت مفتوح على الريح والسماء و القراءة والغناء ، إلى حارات ضيقة ، مغلقة النوافذ ، ملتفة الدروب ، تحتاج إلى كلمات سرية لتفتح إلى أبوابها .
ومن جملة ما وفد على الأدب العربي القصص الشرقي المترجم على ألسنة الحيوانات ، تلك التي اتخذت من الرمز وسيلة لإيصال مقولات الناصح ، إذ سجلت قصص " كليلة ودمنة " لابن المقفع " حضوراً وافر الدهشة في الحياة العربية ، من حيث تعرف الأدب العربي تقنيات جديدة مثل تقنية الرمز ، التي لم تكن واضحة في أساليبه بالرغم من توافر فنيات بلاغية مقاربة لها كالكناية ، الرمز الذي اشتغلت عليه القصيدة الصوفية التي جاءت متأخرة ، كنتاج فني واجتماعي لشريحة ظلت مقيمة في الهامش ، وآثرت ذلك خياراً فلسفياً في أثناء الصراع الحادّ على المركز .
ولم تكن القصيدة العربية ـ قصيدة الصحراء ـ تحتاج إلا إلى معجم لغوي يشرح هذا الكم الكبير من الألفاظ التي آثرت البقاء في البادية ، ولم ترحل مع أهلها إلى الأمصار المفتوحة ، الذين فسدت ألسنهم فقعدوا اللغة ، التي تغيرت آليات توصيلها ، مما عطّل نبعاً ثرّاً و حيوياً كان الأدب يستقي منه ، إذ لبست القصيدة ثوبها الفارسي بالرغم من عربية لسانها مع بدايات العصر العباسي ، حتى أن أهم شعراء تلك الفترة دعا إلى مفارقة طقوس القصيدة العربية ، الدعوة التي لم تخل من شعوبية واضحة " ليس الأعاريب عند الله من أحد ...أبو نواس " .
من هنا كانت على القصيدة أن تمشي في حواري المدينة الضيقة ـ مدينة بغداد ـ ، وتحتاط لنفسها عند المنعطفات ، متجلببة بأردية المذاهب العقلية التي دهمت ليل المدينة البدوية ، والتي كونت مع الأيام فضاء كوزموبوليتالياً واسع الطيف ، التقت فيه تيارات الهامش والمتن ، السلطة والمعارضة ، الغرب والشرق ، أنماط الكتابة الجديدة والشعر ، وكان لا بد ّ لشعر جديد أن يظهر كنتيجة لكل هذه التحولات . وكانت بداية القرن الثاني الهجري بداية لهذه التحولات التي قلقة و متقطعة كقلق الدولة العربية التي بدأت تتفكك أوصالها رويداً رويداً ، ليبقى مشروع التحولات رهن محاولات فردية بعيداً عن المركز ، ولم تبدُ مشروع جماعة سوى عند المتصوفة الذين اتخذوا من الشعر وسيلة لركوب غاياتهم ، فتوقف مشروعهم الشعري عند أسماء بعينها برزت في القرون المتأخرة ، ومع غروب شمس العرب كان الشعر كخطاب مؤسس لشخصية الأمة يذوي رويداً رويداً ، و يستسلم ـ تاركاً لخطاب جديد وبسيط وواضح تهيمن عليه الحكاية الشفوية ، ليكون لسان حال المجموع العاجز ، الذي ظلّ رهين المحابس جميعها سنين عددا .
كنت تحدثت في الجزء الأول من المقال عن سيرة الغموض الذي دب في مفاصل القصيدة العربية رويدا، بالرغم مما قيل عن نشأة القصيدة التي جاءت نتيجة تطور أسجاع الكهان المشربة بالغموض، وبيّنت أهم العوامل التي طرأت على المشهد الأدبي، كان الغموض فيها ثمرة حراك حضاري أدبي، اشترك فيه الداخل والخارج. إلى أن دبّ الوهن في جسم الدولة، فاستسلم الخطاب الأدبي لسبات طويل، زهد فيه بالتجريب والتجديد، وظلّ مجرّد تمارين لغوية تتفوق فيه بلاغة الناظمين وتئد كل مشروع موهبة، حتى أمسى الشعر مطية الأحاجي والأمالي التعليمية.
ومع سريان الروح الجديدة في الأمة، عاد الشعر ينضح بالحياة، وباتت قصائد شعر النهضة تتردد في المحافل، القصائد التي كانت حاملاً إيديولوجياً للنهضة الجديدة، مليئة بالحيوية والحماسة والوضوح، سجّل فيها الشعراء عودة بارعة إلى نماذج الأجداد الشاهقة، وأعلنت هوية الشعر الجديدة التي ساهمت إلى حدّ كبير في رسم الملامح الشخصية للأمة : " تنبهوا واستفيقوا أيها العرب، بلاد العرب أوطاني، أنا البحر في أحشائه الدرّ كامنٌ....." حيث سجلت انتشاراً واسعاً في شرق الوطن العربي وغربه، وقررتها المناهج المدرسية في معظم الدول العربية بالرغم من اختلاف استراتيجياتها في التعليم.
غير أن المثاقفة الجديدة مع الغرب التي عبرت مجالنا الإقليمي بأكثر من وسيلة، وما نتج عن ذلك من تدفق أدب أوروبا بمدارسه المختلفة التي تخلقت في ظرف زمني واسع، سعته ثلاثة قرون تقريباً.. على خلفية ثورات علمية واجتماعية متسارعة، إضافة إلى نمو حاجات جديدة في المجتمع العربي الناهض بداية القرن الماضي، النهوض النائس بين نشوة الاستقلال القصير عن العثمانيين، وبين هيمنة الاستعمار الغربي، الحاجات التي أبرزتها يقظة الأمة.. والتقدم الحضاري عموما، ومن هنا كانت مدارس الأدب الإبداعية والرمزية والسريالية وغيرها، تلتقي مع حاجات جديدة للمثقف العربي الجديد ـ الحداثي ـ الذي صنّعته المدرسة والجريدة والحزب ـ أجنحة مروحة الحداثة بحسب دوبريه ـ وبات الغموض مطلباً فنياً كعلامة تطور في سلم الإبداع العربي، ومطلباً اجتماعياً لبعض النخب التي مارست عن طريق الأدب التقية السياسية تحت وطأة القسوة الشديدة من قبل السلطة الوطنية التي جاءت بعد الاستقلالات الناجزة بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تفاوت تاريخ وصولها إلى الاستقلال، مثلما تفاوتت درجة قسوتها.
يمكن القول إن الغموض كان أهم الألوان التي انصبغت بها القصيدة العربية، بعد خروجها من بيت الطاعة الشعري، إلى باحة التفعيلة الواسعة، ثمّ إلى ساحة النثر الفضفاضة ، وبات الصراع على عرش الشعر الفقير مقلقاً..لأن عناصر الصراع تسلحت بالأيدولوجي على حساب الفني، وباتت المنابر الأدبية " الجريدة ـ الجامعة ـ المنهج المدرسي ـ الإذاعة....الخ " مراكز استقطاب لتيارات تتوسل النفوذ تحت عباءة الشعر، فتبادلت الإقصاءات، واهتمت بتكريس الخطوط التي تنتمي إليها، كلّ هذا عاد على الشعر بالوبال، وأبعده شيئاً فشيئاً عن دائرة اهتمام العامة وخصوصاً في الربع الأخير من القرن الفائت، ليظلّ الشعر في احتمالاته الجديدة مجرد هم نخبوي، تتطفل عليه أحياناً كثيرة نتاجات رديئة تتخذ من الغامض رداء يستر قبحها..
في السنوات الأخيرة و على خلفية الأحداث السياسية " نهاية الحرب الباردة ، حروب الخليج الثلاثة " و مار افقه من ثورة الاتصالات ، ومع ما انبنى على ذلك من هبوب رياح الديمقراطية الغربية ، و زعزعة المفاهيم القديمة في استراتيجيات الدولة الوطنية ، و الاحتفاء بالمفاهيم الجديدة ـ الشفافية كمفهوم سياسي و اجتماعي ـ كلّ هذا دعا قصيدة اليوم أن تتخلى عن حجبها ، ما دام مسوغ التقية قد زال ، وما دامت وسائل الاتصالات خنقت مفهوم الدهشة . فقصيدة الوضوح اليوم تبدو في أكثر من نموذج قادرة على أن تمشي على الأرض بقدمين سليمتين ، رغم أنها لا تزال دون طموحاتنا في أن تستفيد من الفنون الجديدة .. " السينما مثالاً " .
صديقي الشاعر بسام علواني أجاب على سؤاله " متى تفهمنا زوجاتنا ؟ " ، بقصيدته الأخيرة " أكره أن أحبك " التي مثلت نقلة واضحة في سيرته الشعرية حيث ترك الغموض ، و وجد الطريق التي يمكن لقصيدته أن تمشي عليها ، الطريق التي مشاها بأقدام الحنين إلى مفردات الحياة البسيطة التي شكلت جزءا حميماً من ذاكرته .. إذ أضاءها بالكثير من البوح والوضوح ، ليس الوضوح الساذج الذي تعلنه شمس الظهيرة ، بل هو وضوح أول الصبح حيث الغموض نكهة خفيفة تنعش في القارئ شهية الكشف .