نيغروبونتي
عضو فعال
- التسجيل
- 27 مايو 2005
- المشاركات
- 538
- الإعجابات
- 0
السؤال المطروح س : في المدارس نتعلم ان أبو طالب مات مشركا وكافرا ولم يدخل الإيمان قلبه فما هو رأي الإسلام في ذلك؟
الرد على السؤال ج : لا يسعنا المجال هنا إلا أن ننقل رسالة الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه في إيمان أبي طالب عليه السلام وهي قيمة جدا لم تدبرها ونظر في سعة اطلاع الشيخ وتتبعه للأشعار التي من ضمنها ما يقر الذهبي وابن كثير بل حتى الوهابيون أنـها من نظم أبي طالب رضوان الله تعالى عليه .
قال الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه في رسالته ( إيمان أبي طالب ) :
" فمن الدليل على إيمان أبي طالب رضي الله عنه ما اشتهر عنه من الولاية لرسول الله صلى الله عليه وآله والمحبة والنصرة ، وذلك ظاهر معروف لا يدفعه إلا جاهل ، ولا يجحده إلا بهات معاند ، وفي معناه يقول رضي الله تعالى عنه في اللامية السائرة المعروفة :
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد وأحببته حب الحبيب المواصل
وجدت بنفسي دونه وحميته ودارأت عنه بالذرى والكلاكل
فما زال في الدنيا جمالا لأهلها وشينا لمن عادى وزين المحافل
حليما رشيدا حازما غير طانش يوالي إله الخلق ليس بما حل
فأيده رب الـعباد بنصره وأظهر ديـنا حقـه غير باطل
ومن تأمل هذا المدح عرف منه صدق ولاء صاحبه لرسول الله صلى الله عليه وآله ، واعترافه بنبوته ، وإقراره بحقه فيما أتى به ، إذ لا فرق بين أن يقول : محمد نبي صادق ، وما دعا إليه حق صحيح واجب ، وبين قوله :
فأيده رب العباد بنصره * وأظهر دينا حقه غير باطل
وفي هذا البيت إقرار أيضا بالتوحيد صريح ، واعتراف لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة صحيح ، وفي الذي قبله مثل ذلك ، حيث يقول وهو يصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
حليما رشيدا حازما غير طائش * يوالي إله الخلق ليس بما حل
يعني : ليس بكاذب متقول للمحال .
وما بعد هذا القول المعلوم من أبي طالب رضي الله تعالى عنه المتيقن من قبله طريق إلى التأويل في كفره ، إلا وهو طريق إلى التأويل على حمزة وجعفر وغيرهما من وجوه المسلمين ، حتى لا يصح إيمان أحدهم وإن أظهر الإقرار بالشهادتين ، وبذل جهده في نصرة الرسول صلى الله عليه وآله .
وهو في أمر أبي بكر وعمر وعثمان أقرب ، لأنه إن لم يثبت لأبي طالب ، وهو مقر به في نثره ونظمه الذي يسير به عنه الركبان ، ويطبق على رواياته نقلة الأخبار ، ورواة السير والآثار ، مع ظهور نصرته للنبي صلى الله عليه وآله ، وبذل نفسه وولده وأهله وماله دونه ، ورفع الصوت بتصديقه ، والحث على اتباعه ، كان أولى أن لا يثبت للذين ذكرناهم إيمان ، وليس ظهور إقرارهم وشهرته يقارب ظهور إقرار أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، ويداني في الوضوح اعترافه بصدته ونبؤته ، ولهم مع ذلك من التأخر عن نصره ، ومن خذلانه ، والفرار عنه ما لا يخفى على ذي حجا ، ممن سمع الأخبار وتصفح الآثار وهذا لازم لا فصل منه .
ثم إن أبا طالب رضي الله تعالى عنه يصرح في هذه ، لقصيدة بتصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأخص ألفاظ التصديق ، ينادي بالقسم في نصرته صلى الله عليه وآله وسلم وبذل المهجة والأهل دونه ، حيث يقول :
ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعبأ بقول الا باطل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ربيع اليتامى عصمة للارامل
يطوف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في عصمة وفواضل
إلى حيث قال :
كذبتم وبيت الله نسلم أحمدا ولما نطاعن دونه ونقاتل
ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وفي هذه الأبيات أيضا بيان لمن تأملها في صحة ما ذكرناه من إخلاص أبي طالب رضي الله عنه ، والولاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبذل غاية النصرة له ، والشهادة بنبوته وتصديقه حسب ما ذكرناه .
وقد جاءت الأخبار متواترة لا يختلف فيها من أهل النقل اثنان ، أن قريشا أمرت بعض السفهاء أن يلقي على ظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلى الناقة إذا ركع في صلاته ، ففعلوا ذلك ، وبلغ الحديث أبا طالب ، فخرج مسخطا ومعه عبيد له ، فأمرهم أن يلقوا السلى عن ظهره صلى الله عليه وآله وسلم ويغسلوه ، ثم أمرهم أن يأخذوه فيمروه على سبال القوم ، وهم إذ ذاك وجوه قريش ، وحلف بالله أن لا يبرح حتى يفعلوا بهم ذاك ، فما امتنع أحد منهم عن طاعته ، وأذل جماعتهم بذلك وأخزاهم .
وفي هذا الحديث دليل على رئاسة أبي طالب على الجماعة ، وعظم محله فيهم ، وأنه ممن تجب طاعته عندهم ، ويجوز أمره فيهم وعليهم ، ودلالة على شدة غضبه لله عزوجل ولرسوله صلى الله عليه وآله ، وحميته له ولدينه ، وترك المداهنة والتقية في حقه ، والتصميم لنصرته ، والبلوغ في ذلك إلى حيث لم يستطعه أحد قبله ، ولا ناله أحد بعده .
وقد أجمع أهل السير أيضا ونقلة الأخبار أن أبا طالب رضي الله عنه لما فقد النبي صلى الله عليه وآله ليلة الإسراء ، جمع ولده ومواليه ، وسلم إلى كل رجل منهم مدية ، وأمرهم أن يباكروا الكعبة ، فيجلس كل رجل منهم إلى جانب رجل من قريش ممن كان يجلس بفناء الكعبة ، وهم يومئذ سادات أهل البطحاء ، فإن أصبح ولم يعرف للنبي صلى الله عليه وآله خبرأ أو سمع فيه سوءا ، أومأ إليهم بقتل القوم ، ففعلوا ذلك .
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد مع طلوع الشمس ، فلما رآه أبو طالب قام إليه مستبشرا فقبل بين عينيه ، وحمد الله عزوجل على سلامته ، ثم قال : والله ، يا ابن أخي ، لو تأخرت عني لما تركت من هؤلاء عينا تطرف . وأومأ إلى الجماعة الجلوس بفناء الكعبة من سادات قريش ذلك . ثم قال لولده ومواليه : أخرجوا أيديكم من تحت ثيابكم . فلما رأت قريش ذلك انزعجت له ، ورجعت على أبي طالب بالعتب والاسعطاف فلم يحفل بهم .
ولم تزل قريش بعد ذلك خائفة من أبي طالب ، مشفقة على أنفسها من أذى يلحق النبي صلى الله عليه وآله ، وهذا هو النصر الحقيقي نابع عن صدق في الولاية ، وبه ثبتت النبوة ، وتمكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أداء الرسالة ، ولولاه ما قامت الدعوة ، ومن لم يعرف باعتباره إيمان صاحبه وعظم عناه في الدين ، خرج من حد المكلفين .
على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل عزيزا ما كان أبو طالب حيا ، ولم يزل به ممنوعا من الأذى ، معصوما حتى توفاه الله تعالى ، فنبت به مكة ، ولم تستقر له فيها دعوة ، وأجمع القوم على الفتك به ، حتى جاءه الوحي من ربه ، فقال له جبرئيل عليه السلام : إن الله عزوجل يقرئك السلام ، ويقول لك : اخرج عن مكة فقد مات ناصرك . فخرج عليه السلام : هاربا مستخفيا بخروجه ، وبيت أمير المؤمنين بدلا منه على فراشه ، فبات موقيا له بنفسه ، وسالكا بذلك منهاج أبيه رضي الله عنه في ولايته ونصرته ، وبذل النفس دونه .
فكم بين من أسلم نفسه لنبيه ، وشراها الله تعالى في طاعة نبيه صلى الله عليه وآله ، وبين من حصل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمن وحرز ، وهو لا يملك نفسه جزعا ، ولا قلبه هلعا ، قد أظهر الحزن ، وأبدى الخور ، شاكا في خبر الله تعالى ، مرتابا بقول رسول الله صلى الله عليه والله وسلم ، غير واثق بنصر الله عزوجل ، آيسا من روح الله ، ضانا بنفسه عن الشهادة مع نبي الله صلى الله عليه وآله ، أم كم بين ما ذكرناه من نصر أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وآله وقيامه بأمره حتى بلغ دين الله ومسارعته إلى اتباعه ومعاضدته ومؤازرته وبين تأخر غيره عنه وإخلائه مع أعدائه عليه ونحره في السفر إلى . . . . . . . . . . . . . يطعم منه الراحلين معه لسفك دمه حتى إذا ظفره الله تعالى به مقهورا وجئ به إليه أسيرا دعاه إلى الإيمان فلجلج وأمره بفداء نفسه فامتنع ، فلما اشرف على دمه اقر وانقاد للفداء ضرورة واسلم .
إن هذا لعجب في القياس وغفلة خصوم الحق عن فصل ما بين هذه الأمور حتى عموا فيها عن الصواب ، وركبوا العصبية والعناد ، لا عجب والله نسأل التوفيق .
ومما يؤيد ما ذكرناه من إيمان أبي طالب رضي الله تعالى عنه ويزيده بيانا ، أنه لما قبض رحمه الله ، آتى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فآذنه بموته فتوجع لذلك النبي صلى الله عليه وآله وقال :
" امض يا علي ، فتول غسله وتكفينه وتحنيطه ، فإذا رفعته على سريره فأعلمني " . ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، فلما رفعه على السرير اعترضه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فرق له ، وقال : " وصلتك رحم ، وجزيت خيرا ، فلقد ربيت وكفلت صغيرا ، وآزرت ونصرت كبيرا " . ثم أقبل على الناس ، فقال : " أما والله ، لاشفعن لعمي شفاعة يعجب منها أهل الثقلين ".
وفي هذا الحديث دليلان على إيمان أبي طالب رضي الله عنه :
أحدهما : أمر رسول الله عليا صلوات الله عليهما وآلهما بغسله وتكفينه دون الحاضرين من أولاده ، إذ كان من حضره منهم سوى أمير المؤمنين إذ ذاك على الجاهلية ، لان جعفرا رحمه الله كان يومئذ ببلاد الحبشة ، وكان عقيل وطالب حاضرين ، وهما يومئذ على خلاف الإسلام ، لا يسلم واحد منهما بعد ، وأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام مؤمن بالله تعالى ورسوله ، فخص المؤمن منهم بولاية أمره ، وجعله أحق به منهما ، لإيمانه ووفاقه إياه في دينه . ولو كان أبو طالب رضي الله عنه مات على ما يزعم النواصب كافرا ، كان عقيل وطالب أحق بتولية أمره من علي عليه الصلاة والسلام ولما جاز للمسلم من ولده القيام بأمره ، لانقطاع العصمة بينهما .
وفي حكم رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه الصلاة والسلام به دونهما وأمره إياه بإجراء أحكام المسلمين عليه من الغسل والتطهير والتحنيط والتكفين والمواراة ، شاهد صدق في إيمانه على ما بيناه .
والدليل الآخر : دعاء النبي صلى الله عليه وآله له بالخيرات ، ووعده أمته فيه بالشفاعة إلى الله ، واتباعه بالثناء والحمد والدعاء ، وهذه هي الصلاة التي كانت مكتوبة إذ ذاك على أموات أهل الإسلام ، ولو كان أبو طالب مات كافرا لما وسع رسول الله صلى الله عليه وآله الثناء عليه بعد الموت ، والدعاء له بشئ من الخير ، بل كان يجب عليه اجتنابه ، واتباعه بالذم واللوم على قبح ما أسلفه من الخلاف له في دينه ، كما فرض الله عزوجل ذلك عليه للكافرين ، حيث يقول : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ). وفي قوله : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرا منه ).
وإذا كان الأمر على ما وصفناه ، ثبت أن أبا طالب رضي الله عنه مات مؤمنا ، بدلالة فعله ومقاله ، وفعل نبي الله صلى الله عليه وآله به ومقاله ، حسبما شرحناه .
ويؤكد ذلك ما أجمع عليه أهل النقل من العامة والخاصة ، ورواه أصحاب الحديث عن رجالهم الثقات من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل فقيل له : ما تقول في عمك أبي طالب ، يا رسول الله ، وترجو له ؟ قال : " أرجو له كل خير من ربي " .
فلولا أنه رحمة الله عليه مات على الإيمان لما جاز من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجاء الخيرات له من الله عزوجل ، مع ما قطع له تعالى به في القرآن وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من خلود الكفار في النار ، وحرمان الله لهم سائر الخيرات وتأبيدهم في العذاب على وجه الاستحقاق والهوان .
فصل فأما قوله رضي الله عنه المنبه على إسلامه وحسن نصرته ، وإيمانه الذي ذكرناه عنه ، فهو ظاهر مشهور في نظمه المنقول عنه على التواتر والإجماع ، وسأورد منه جزءا يدل على ما سواه ، إن شاء اله تعالى . فمن ذلك قوله في قصيدته الميمية التي أولها :
ألا من لهم آخر الليل مقتم طواني وأخرى النجم لما تقحم ؟
إلى قوله :
أترجون أن نسخو بقتل محمد ولم تختضب سمر العوالي من الدم
كذبتم وبيت الله حتى تفرقوا جماجم تلقى بالحطيم وزمزم
وتقطع أرحام وتنسى حليلة خليلا ويغشى محرم بعد محرم
وينهض قوم في الحديد إليكم يذودون عن أحسابهم كل مجرم
على ما أتى من بغيكم وضلالكم وعصيانكم في كل أمر ومظلم
بظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى وأمر أتى من عند ذي العرش مبرم
فلا تحسبونا مسلميه ومثله إذا كان في قوم فليس بمسلم
أفلا ترى الخصوم إلى هذا الجد من أبي طالب رضي الله عنه في نصرة نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والتصريح بنبوته ، والإقرار بما جاء من عند الله عز وجل ، والشهادة بحقه ، فيتدبرون ذلك أم على قلوب أقفالها ؟!
ومنه قوله رضي الله تعالى عنه :
تطاول ليلي بـهم نصب ودمع كسح السقاء السرب
للعب قصي بأحلامها وهل يرجع الحلم بعد اللعب
إلى قوله رضي الله عنه :
وقالوا لأحمد أنت امرؤ خلوف الحديث ضعيف النسب
ألا إن أحمد قد جاءهم بحق ، ولم يأتهم بالكذب
وفي هذا البيت صرح بالايمان برسول الله صلى الله عليه وآله .
ومنه قوله رضي الله تعالى عنه :
أخلتم بأنا مسلمون محمدا ولما نقاذف دونه بالمراجم
أمينا حبيبا في البلاد مسوما بخاتم رب قاهر للخواتم
يرى الناس برهانا عليه وهيبة وما جاهل في فضله مثل عالم
نبيا أتاه الوحي من عند ربه فمن قال لا يقرع بها سن نادم
تطيف به جرثومة هاشمية تذبب عنه كل باغ وظالم
ومنه قوله رضي الله تعالى عنه :
ألا أبلغا عني على ذات بينها . لؤيا وخصا من لؤي بني كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا نبيا كموسى خط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة ولا شك فيمن خصه الله بالحب
وفي هذا الشعر والذي قبله محض الإقرار برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالنبوة ، وصريحه بلا ارتياب .
ومن ذلك قوله رضي الله عنه :
ألا من لهم آخر الليل منصب وشعب العصا من قومك المشعب
إلى قوله :
وقد كان في أمر الصحيفة عبرة متى ما تخبر غائب القوم يعجب
محا الله منها كفرهم وعيوبهم وما نقموا من باطل الحق مقرب
فكذب ما قالوا من الأمر باطلا ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب
وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا على سخط من قومنا غير معتب
فلا تحسبونا مسلمين محمدا لذي غربة منا ولا متغرب
ستمنعه منا يد هاشمية مركبها في الناس غير مركب
وقال أيضا رضي الله عنه يحض حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه على اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله ، والصبر على طاعته ، والثبات على دينه :
فصبرا أبا يعلى على دين أحمد وكن مظهرا للدين وفقت صابرا
نبي أتى بالدين من عند ربه بصدق وحق لا تكن حمز كافرا
فقد سرني إذ قلت : لبيك ، مؤمنا فكن لرسول الله في الدين ناصرا
وناد قريشا بالذي قد اتيته جهارا ، وقل : ما كان أحمد ساحرا
وليس وراء هذه الشهادة والاقرار بالنبوة والحث على اعتقادها بيان في إيمانه ولا بعده شبهة وليس غير ذلك إلا العناد ورفع الاضطرار ، نعوذ بالله من الخذلان .
ومن ذلك قوله رضي الله تعالى عنه :
إذا قيل من خير هذا الورى قبيلا ، وأكرمهم اسره ؟
أناف بعبد مناف أبي أبو نضلة هاشم الغره
وقد حل مجد بني هاشم مكان النعائم والزهره
وخير بني هاشم أحمد رسول المليك على فتره
وهذا مطابق لقوله تعالى : ( قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ) فإن لم يكن في ذلك شهادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة ، فليس في ظاهر الآية شهادة ، وهذا ما لا يرتكبه عاقل ، له معرفة بأدنى معرفة أهل اللسان .
ومنه قوله في ذكر الآيات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودلائله ، وقول بحيراء الراهب فيه ، وذلك أن أبا طالب رضي الله عنه لما أراد الخروج إلى الشام ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إشفاقا عليه ، ولم يعمل على استصحابه ، فلما ركب أبو طالب رضي الله تعالى عنه بلغه ذلك ، فتعلق رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم بالناقة وبكى ، وناشده الله في إخراجه معه ، فرق له أبو طالب وأجابه إلى استصحابه . فلما خرج معه أظلته الغمامة ، ولقيه بحيراء الراهب فأخبره بنبوته ، وذكر لهم البشارة في الكتب الاولى ، فقال أبو طالب رضي الله تعالى عنه :
إن الأمين محمدا في قومه عندي يفوق منازل الأولاد
لما تعلق بالزمام ضممته والعيس قد قلصن بالازواد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا لاقوا على شرف من المرصاد
حبرا فأخبرهم حديثا صادقا عنه ورد معاشر الحساد
ومنه قوله رضي الله عنه وقد حضرته الوفاة في وصيته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
أوصي بنصر النبي الخير مشهده عليا ابني وشيخ القوم عباسا
وحمزة الأسد الحامي حقيقته وجعفرا ليذودوا دونه الباسا
ومن ذلك قوله رحمه الله تعالى :
أبيت بحمد الله ترك محمد بمكة أسلمه لشر القبائل
وقال لي الأعداء : قاتل عصابة أطاعوه ، وابغهم جميع الغوائل
إلى قوله :
أقيم على نصر النبي محمد أقاتل عنه بالقنا والذوابل
ومنه أيضا قوله يحض النجاشي على نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
تعلم مليك الحبش أن محمدا نبي كموسى والمسيح بن مريم
أتى بهدى مثل الذي أتيا به فكل بأمر الله يهدي ويعصم
وإنكم تتلونه في كتابكم بصدق حديث لا حديث المبرجم
وإنك ما تأتيك منا عصابة بفضلك إلا عاودوا بالتكرم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا فإن طريق الحق ليس بمظلم
وفي هذا الشعر من التوحيد والإسلام مالا يمكن دفعه مسلما .
ومن ذلك قوله رضي الله تعالى عنه لجعفر ابنه وقد أمر بالصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله :
صل ، يا بني ، جناح ابن عملك . فعل ، فلما رأى إجابته له أنشأ يقول :
إن عليا وجعفرا ثقتي عند ملم الخطوب والكرب
والله لا أخذل النبي ولا يخذله من بني ذو حسب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما أخي لامي من دونهم وأبي
فهذا القول في خاتمة أمره وفاقا لما سلف منه في مضي زمانه وحياته ، وهو محض التصديق حقيقة الإيمان ، وصريح الإسلام ، وإيمانه بالله تعالى .
وله من بعد هذا أبيات في المعنى المتقدم يطول بها التقصاص ، منها قوله في قصيدة ميمية له وقد عدد آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
فذلك من أعلامه وبيانه وليس نهار واضح كظلام.
وقوله في قصيدته الدالية :
فما يرجوا حتى رووا من محمد أحاديث تجلو غم كل فؤاد
فأما دليل توحيده لله عزوجل فمن كلامه المشهور ومقاله المعروف أكثر من أن يحصى ، وقد تقدم منه مما كتبناه ، ما سنلحقه بأمثاله له في معناه ، على سبيل الاختصار إن شاء الله .
فمن ذلك قوله في قصيدة طويلة :
مليك الناس ليس له شريك هو الوهاب والمبدي المعيد
ومن فوق السماء له ملاك ومن تحت السماء له عبيد
فأقر لله تعالى بالتوحيد ، وخلع الأنداد من دونه ، وأنه يعيد بعد الابداء ، وينشئ خلقه نشأة اخرى ، وبهذا المعنى فارق المسلمون أهل الجاهلية وباينهم فيما كانوا عليه من خلاف التوحيد والملة .
وله أيضا في قصيدة بائية :
فوالله لولا الله لا شئ غيره لا صبحتم لا تملكون لنا شربا
وأشباه ذلك ونظائره مما هو موجود في نظمه ونثره ، وفي وصاياه وسجعه في خطبه وكلامه المدون له في البلاغة والحكمة ، وإيراد جميعه يطو ل ، وفيما أثبتناه منه كفاية ، ومن دلائل إيمانه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفاية وبلاغ . والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على سيدنا محمد وآله الطاهرين ". انتهت رسالة الشيخ المفيد قدس سره الشريف .
فإن لم يكن أبو طالب مسلما بكل هذه التصريحات والشهادات بالله وبرسوله فمن ذا الذي أسلم من صحابتهم وما ذكروا عشر معشار ما جهر به سيد البطحاء وكافل النبي صلى الله عليه وآله ؟!
ولا غرابة حيث كانت الأحاديث والتواريخ قد كتبت بأقلام النواصب لعنهم الله أن يصبح أبو سفيان الطليق المحارب للإسلام وأهله مؤمنا وأبو طالب عليه السلام كافرا والعياذ بالله وهو الذي ضحى كل هذه التضحيات في سبيل الله ولنصرة نبيه وتركه الأهل والعشيرة ليعيش في شعب أبي طالب .
والحمد لله رب العالمين
الرد على السؤال ج : لا يسعنا المجال هنا إلا أن ننقل رسالة الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه في إيمان أبي طالب عليه السلام وهي قيمة جدا لم تدبرها ونظر في سعة اطلاع الشيخ وتتبعه للأشعار التي من ضمنها ما يقر الذهبي وابن كثير بل حتى الوهابيون أنـها من نظم أبي طالب رضوان الله تعالى عليه .
قال الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه في رسالته ( إيمان أبي طالب ) :
" فمن الدليل على إيمان أبي طالب رضي الله عنه ما اشتهر عنه من الولاية لرسول الله صلى الله عليه وآله والمحبة والنصرة ، وذلك ظاهر معروف لا يدفعه إلا جاهل ، ولا يجحده إلا بهات معاند ، وفي معناه يقول رضي الله تعالى عنه في اللامية السائرة المعروفة :
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد وأحببته حب الحبيب المواصل
وجدت بنفسي دونه وحميته ودارأت عنه بالذرى والكلاكل
فما زال في الدنيا جمالا لأهلها وشينا لمن عادى وزين المحافل
حليما رشيدا حازما غير طانش يوالي إله الخلق ليس بما حل
فأيده رب الـعباد بنصره وأظهر ديـنا حقـه غير باطل
ومن تأمل هذا المدح عرف منه صدق ولاء صاحبه لرسول الله صلى الله عليه وآله ، واعترافه بنبوته ، وإقراره بحقه فيما أتى به ، إذ لا فرق بين أن يقول : محمد نبي صادق ، وما دعا إليه حق صحيح واجب ، وبين قوله :
فأيده رب العباد بنصره * وأظهر دينا حقه غير باطل
وفي هذا البيت إقرار أيضا بالتوحيد صريح ، واعتراف لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة صحيح ، وفي الذي قبله مثل ذلك ، حيث يقول وهو يصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
حليما رشيدا حازما غير طائش * يوالي إله الخلق ليس بما حل
يعني : ليس بكاذب متقول للمحال .
وما بعد هذا القول المعلوم من أبي طالب رضي الله تعالى عنه المتيقن من قبله طريق إلى التأويل في كفره ، إلا وهو طريق إلى التأويل على حمزة وجعفر وغيرهما من وجوه المسلمين ، حتى لا يصح إيمان أحدهم وإن أظهر الإقرار بالشهادتين ، وبذل جهده في نصرة الرسول صلى الله عليه وآله .
وهو في أمر أبي بكر وعمر وعثمان أقرب ، لأنه إن لم يثبت لأبي طالب ، وهو مقر به في نثره ونظمه الذي يسير به عنه الركبان ، ويطبق على رواياته نقلة الأخبار ، ورواة السير والآثار ، مع ظهور نصرته للنبي صلى الله عليه وآله ، وبذل نفسه وولده وأهله وماله دونه ، ورفع الصوت بتصديقه ، والحث على اتباعه ، كان أولى أن لا يثبت للذين ذكرناهم إيمان ، وليس ظهور إقرارهم وشهرته يقارب ظهور إقرار أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، ويداني في الوضوح اعترافه بصدته ونبؤته ، ولهم مع ذلك من التأخر عن نصره ، ومن خذلانه ، والفرار عنه ما لا يخفى على ذي حجا ، ممن سمع الأخبار وتصفح الآثار وهذا لازم لا فصل منه .
ثم إن أبا طالب رضي الله تعالى عنه يصرح في هذه ، لقصيدة بتصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأخص ألفاظ التصديق ، ينادي بالقسم في نصرته صلى الله عليه وآله وسلم وبذل المهجة والأهل دونه ، حيث يقول :
ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعبأ بقول الا باطل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ربيع اليتامى عصمة للارامل
يطوف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في عصمة وفواضل
إلى حيث قال :
كذبتم وبيت الله نسلم أحمدا ولما نطاعن دونه ونقاتل
ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وفي هذه الأبيات أيضا بيان لمن تأملها في صحة ما ذكرناه من إخلاص أبي طالب رضي الله عنه ، والولاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبذل غاية النصرة له ، والشهادة بنبوته وتصديقه حسب ما ذكرناه .
وقد جاءت الأخبار متواترة لا يختلف فيها من أهل النقل اثنان ، أن قريشا أمرت بعض السفهاء أن يلقي على ظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلى الناقة إذا ركع في صلاته ، ففعلوا ذلك ، وبلغ الحديث أبا طالب ، فخرج مسخطا ومعه عبيد له ، فأمرهم أن يلقوا السلى عن ظهره صلى الله عليه وآله وسلم ويغسلوه ، ثم أمرهم أن يأخذوه فيمروه على سبال القوم ، وهم إذ ذاك وجوه قريش ، وحلف بالله أن لا يبرح حتى يفعلوا بهم ذاك ، فما امتنع أحد منهم عن طاعته ، وأذل جماعتهم بذلك وأخزاهم .
وفي هذا الحديث دليل على رئاسة أبي طالب على الجماعة ، وعظم محله فيهم ، وأنه ممن تجب طاعته عندهم ، ويجوز أمره فيهم وعليهم ، ودلالة على شدة غضبه لله عزوجل ولرسوله صلى الله عليه وآله ، وحميته له ولدينه ، وترك المداهنة والتقية في حقه ، والتصميم لنصرته ، والبلوغ في ذلك إلى حيث لم يستطعه أحد قبله ، ولا ناله أحد بعده .
وقد أجمع أهل السير أيضا ونقلة الأخبار أن أبا طالب رضي الله عنه لما فقد النبي صلى الله عليه وآله ليلة الإسراء ، جمع ولده ومواليه ، وسلم إلى كل رجل منهم مدية ، وأمرهم أن يباكروا الكعبة ، فيجلس كل رجل منهم إلى جانب رجل من قريش ممن كان يجلس بفناء الكعبة ، وهم يومئذ سادات أهل البطحاء ، فإن أصبح ولم يعرف للنبي صلى الله عليه وآله خبرأ أو سمع فيه سوءا ، أومأ إليهم بقتل القوم ، ففعلوا ذلك .
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد مع طلوع الشمس ، فلما رآه أبو طالب قام إليه مستبشرا فقبل بين عينيه ، وحمد الله عزوجل على سلامته ، ثم قال : والله ، يا ابن أخي ، لو تأخرت عني لما تركت من هؤلاء عينا تطرف . وأومأ إلى الجماعة الجلوس بفناء الكعبة من سادات قريش ذلك . ثم قال لولده ومواليه : أخرجوا أيديكم من تحت ثيابكم . فلما رأت قريش ذلك انزعجت له ، ورجعت على أبي طالب بالعتب والاسعطاف فلم يحفل بهم .
ولم تزل قريش بعد ذلك خائفة من أبي طالب ، مشفقة على أنفسها من أذى يلحق النبي صلى الله عليه وآله ، وهذا هو النصر الحقيقي نابع عن صدق في الولاية ، وبه ثبتت النبوة ، وتمكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أداء الرسالة ، ولولاه ما قامت الدعوة ، ومن لم يعرف باعتباره إيمان صاحبه وعظم عناه في الدين ، خرج من حد المكلفين .
على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل عزيزا ما كان أبو طالب حيا ، ولم يزل به ممنوعا من الأذى ، معصوما حتى توفاه الله تعالى ، فنبت به مكة ، ولم تستقر له فيها دعوة ، وأجمع القوم على الفتك به ، حتى جاءه الوحي من ربه ، فقال له جبرئيل عليه السلام : إن الله عزوجل يقرئك السلام ، ويقول لك : اخرج عن مكة فقد مات ناصرك . فخرج عليه السلام : هاربا مستخفيا بخروجه ، وبيت أمير المؤمنين بدلا منه على فراشه ، فبات موقيا له بنفسه ، وسالكا بذلك منهاج أبيه رضي الله عنه في ولايته ونصرته ، وبذل النفس دونه .
فكم بين من أسلم نفسه لنبيه ، وشراها الله تعالى في طاعة نبيه صلى الله عليه وآله ، وبين من حصل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمن وحرز ، وهو لا يملك نفسه جزعا ، ولا قلبه هلعا ، قد أظهر الحزن ، وأبدى الخور ، شاكا في خبر الله تعالى ، مرتابا بقول رسول الله صلى الله عليه والله وسلم ، غير واثق بنصر الله عزوجل ، آيسا من روح الله ، ضانا بنفسه عن الشهادة مع نبي الله صلى الله عليه وآله ، أم كم بين ما ذكرناه من نصر أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وآله وقيامه بأمره حتى بلغ دين الله ومسارعته إلى اتباعه ومعاضدته ومؤازرته وبين تأخر غيره عنه وإخلائه مع أعدائه عليه ونحره في السفر إلى . . . . . . . . . . . . . يطعم منه الراحلين معه لسفك دمه حتى إذا ظفره الله تعالى به مقهورا وجئ به إليه أسيرا دعاه إلى الإيمان فلجلج وأمره بفداء نفسه فامتنع ، فلما اشرف على دمه اقر وانقاد للفداء ضرورة واسلم .
إن هذا لعجب في القياس وغفلة خصوم الحق عن فصل ما بين هذه الأمور حتى عموا فيها عن الصواب ، وركبوا العصبية والعناد ، لا عجب والله نسأل التوفيق .
ومما يؤيد ما ذكرناه من إيمان أبي طالب رضي الله تعالى عنه ويزيده بيانا ، أنه لما قبض رحمه الله ، آتى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فآذنه بموته فتوجع لذلك النبي صلى الله عليه وآله وقال :
" امض يا علي ، فتول غسله وتكفينه وتحنيطه ، فإذا رفعته على سريره فأعلمني " . ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، فلما رفعه على السرير اعترضه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فرق له ، وقال : " وصلتك رحم ، وجزيت خيرا ، فلقد ربيت وكفلت صغيرا ، وآزرت ونصرت كبيرا " . ثم أقبل على الناس ، فقال : " أما والله ، لاشفعن لعمي شفاعة يعجب منها أهل الثقلين ".
وفي هذا الحديث دليلان على إيمان أبي طالب رضي الله عنه :
أحدهما : أمر رسول الله عليا صلوات الله عليهما وآلهما بغسله وتكفينه دون الحاضرين من أولاده ، إذ كان من حضره منهم سوى أمير المؤمنين إذ ذاك على الجاهلية ، لان جعفرا رحمه الله كان يومئذ ببلاد الحبشة ، وكان عقيل وطالب حاضرين ، وهما يومئذ على خلاف الإسلام ، لا يسلم واحد منهما بعد ، وأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام مؤمن بالله تعالى ورسوله ، فخص المؤمن منهم بولاية أمره ، وجعله أحق به منهما ، لإيمانه ووفاقه إياه في دينه . ولو كان أبو طالب رضي الله عنه مات على ما يزعم النواصب كافرا ، كان عقيل وطالب أحق بتولية أمره من علي عليه الصلاة والسلام ولما جاز للمسلم من ولده القيام بأمره ، لانقطاع العصمة بينهما .
وفي حكم رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه الصلاة والسلام به دونهما وأمره إياه بإجراء أحكام المسلمين عليه من الغسل والتطهير والتحنيط والتكفين والمواراة ، شاهد صدق في إيمانه على ما بيناه .
والدليل الآخر : دعاء النبي صلى الله عليه وآله له بالخيرات ، ووعده أمته فيه بالشفاعة إلى الله ، واتباعه بالثناء والحمد والدعاء ، وهذه هي الصلاة التي كانت مكتوبة إذ ذاك على أموات أهل الإسلام ، ولو كان أبو طالب مات كافرا لما وسع رسول الله صلى الله عليه وآله الثناء عليه بعد الموت ، والدعاء له بشئ من الخير ، بل كان يجب عليه اجتنابه ، واتباعه بالذم واللوم على قبح ما أسلفه من الخلاف له في دينه ، كما فرض الله عزوجل ذلك عليه للكافرين ، حيث يقول : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ). وفي قوله : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرا منه ).
وإذا كان الأمر على ما وصفناه ، ثبت أن أبا طالب رضي الله عنه مات مؤمنا ، بدلالة فعله ومقاله ، وفعل نبي الله صلى الله عليه وآله به ومقاله ، حسبما شرحناه .
ويؤكد ذلك ما أجمع عليه أهل النقل من العامة والخاصة ، ورواه أصحاب الحديث عن رجالهم الثقات من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل فقيل له : ما تقول في عمك أبي طالب ، يا رسول الله ، وترجو له ؟ قال : " أرجو له كل خير من ربي " .
فلولا أنه رحمة الله عليه مات على الإيمان لما جاز من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجاء الخيرات له من الله عزوجل ، مع ما قطع له تعالى به في القرآن وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من خلود الكفار في النار ، وحرمان الله لهم سائر الخيرات وتأبيدهم في العذاب على وجه الاستحقاق والهوان .
فصل فأما قوله رضي الله عنه المنبه على إسلامه وحسن نصرته ، وإيمانه الذي ذكرناه عنه ، فهو ظاهر مشهور في نظمه المنقول عنه على التواتر والإجماع ، وسأورد منه جزءا يدل على ما سواه ، إن شاء اله تعالى . فمن ذلك قوله في قصيدته الميمية التي أولها :
ألا من لهم آخر الليل مقتم طواني وأخرى النجم لما تقحم ؟
إلى قوله :
أترجون أن نسخو بقتل محمد ولم تختضب سمر العوالي من الدم
كذبتم وبيت الله حتى تفرقوا جماجم تلقى بالحطيم وزمزم
وتقطع أرحام وتنسى حليلة خليلا ويغشى محرم بعد محرم
وينهض قوم في الحديد إليكم يذودون عن أحسابهم كل مجرم
على ما أتى من بغيكم وضلالكم وعصيانكم في كل أمر ومظلم
بظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى وأمر أتى من عند ذي العرش مبرم
فلا تحسبونا مسلميه ومثله إذا كان في قوم فليس بمسلم
أفلا ترى الخصوم إلى هذا الجد من أبي طالب رضي الله عنه في نصرة نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والتصريح بنبوته ، والإقرار بما جاء من عند الله عز وجل ، والشهادة بحقه ، فيتدبرون ذلك أم على قلوب أقفالها ؟!
ومنه قوله رضي الله تعالى عنه :
تطاول ليلي بـهم نصب ودمع كسح السقاء السرب
للعب قصي بأحلامها وهل يرجع الحلم بعد اللعب
إلى قوله رضي الله عنه :
وقالوا لأحمد أنت امرؤ خلوف الحديث ضعيف النسب
ألا إن أحمد قد جاءهم بحق ، ولم يأتهم بالكذب
وفي هذا البيت صرح بالايمان برسول الله صلى الله عليه وآله .
ومنه قوله رضي الله تعالى عنه :
أخلتم بأنا مسلمون محمدا ولما نقاذف دونه بالمراجم
أمينا حبيبا في البلاد مسوما بخاتم رب قاهر للخواتم
يرى الناس برهانا عليه وهيبة وما جاهل في فضله مثل عالم
نبيا أتاه الوحي من عند ربه فمن قال لا يقرع بها سن نادم
تطيف به جرثومة هاشمية تذبب عنه كل باغ وظالم
ومنه قوله رضي الله تعالى عنه :
ألا أبلغا عني على ذات بينها . لؤيا وخصا من لؤي بني كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا نبيا كموسى خط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة ولا شك فيمن خصه الله بالحب
وفي هذا الشعر والذي قبله محض الإقرار برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالنبوة ، وصريحه بلا ارتياب .
ومن ذلك قوله رضي الله عنه :
ألا من لهم آخر الليل منصب وشعب العصا من قومك المشعب
إلى قوله :
وقد كان في أمر الصحيفة عبرة متى ما تخبر غائب القوم يعجب
محا الله منها كفرهم وعيوبهم وما نقموا من باطل الحق مقرب
فكذب ما قالوا من الأمر باطلا ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب
وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا على سخط من قومنا غير معتب
فلا تحسبونا مسلمين محمدا لذي غربة منا ولا متغرب
ستمنعه منا يد هاشمية مركبها في الناس غير مركب
وقال أيضا رضي الله عنه يحض حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه على اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله ، والصبر على طاعته ، والثبات على دينه :
فصبرا أبا يعلى على دين أحمد وكن مظهرا للدين وفقت صابرا
نبي أتى بالدين من عند ربه بصدق وحق لا تكن حمز كافرا
فقد سرني إذ قلت : لبيك ، مؤمنا فكن لرسول الله في الدين ناصرا
وناد قريشا بالذي قد اتيته جهارا ، وقل : ما كان أحمد ساحرا
وليس وراء هذه الشهادة والاقرار بالنبوة والحث على اعتقادها بيان في إيمانه ولا بعده شبهة وليس غير ذلك إلا العناد ورفع الاضطرار ، نعوذ بالله من الخذلان .
ومن ذلك قوله رضي الله تعالى عنه :
إذا قيل من خير هذا الورى قبيلا ، وأكرمهم اسره ؟
أناف بعبد مناف أبي أبو نضلة هاشم الغره
وقد حل مجد بني هاشم مكان النعائم والزهره
وخير بني هاشم أحمد رسول المليك على فتره
وهذا مطابق لقوله تعالى : ( قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ) فإن لم يكن في ذلك شهادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة ، فليس في ظاهر الآية شهادة ، وهذا ما لا يرتكبه عاقل ، له معرفة بأدنى معرفة أهل اللسان .
ومنه قوله في ذكر الآيات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودلائله ، وقول بحيراء الراهب فيه ، وذلك أن أبا طالب رضي الله عنه لما أراد الخروج إلى الشام ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إشفاقا عليه ، ولم يعمل على استصحابه ، فلما ركب أبو طالب رضي الله تعالى عنه بلغه ذلك ، فتعلق رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم بالناقة وبكى ، وناشده الله في إخراجه معه ، فرق له أبو طالب وأجابه إلى استصحابه . فلما خرج معه أظلته الغمامة ، ولقيه بحيراء الراهب فأخبره بنبوته ، وذكر لهم البشارة في الكتب الاولى ، فقال أبو طالب رضي الله تعالى عنه :
إن الأمين محمدا في قومه عندي يفوق منازل الأولاد
لما تعلق بالزمام ضممته والعيس قد قلصن بالازواد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا لاقوا على شرف من المرصاد
حبرا فأخبرهم حديثا صادقا عنه ورد معاشر الحساد
ومنه قوله رضي الله عنه وقد حضرته الوفاة في وصيته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
أوصي بنصر النبي الخير مشهده عليا ابني وشيخ القوم عباسا
وحمزة الأسد الحامي حقيقته وجعفرا ليذودوا دونه الباسا
ومن ذلك قوله رحمه الله تعالى :
أبيت بحمد الله ترك محمد بمكة أسلمه لشر القبائل
وقال لي الأعداء : قاتل عصابة أطاعوه ، وابغهم جميع الغوائل
إلى قوله :
أقيم على نصر النبي محمد أقاتل عنه بالقنا والذوابل
ومنه أيضا قوله يحض النجاشي على نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
تعلم مليك الحبش أن محمدا نبي كموسى والمسيح بن مريم
أتى بهدى مثل الذي أتيا به فكل بأمر الله يهدي ويعصم
وإنكم تتلونه في كتابكم بصدق حديث لا حديث المبرجم
وإنك ما تأتيك منا عصابة بفضلك إلا عاودوا بالتكرم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا فإن طريق الحق ليس بمظلم
وفي هذا الشعر من التوحيد والإسلام مالا يمكن دفعه مسلما .
ومن ذلك قوله رضي الله تعالى عنه لجعفر ابنه وقد أمر بالصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله :
صل ، يا بني ، جناح ابن عملك . فعل ، فلما رأى إجابته له أنشأ يقول :
إن عليا وجعفرا ثقتي عند ملم الخطوب والكرب
والله لا أخذل النبي ولا يخذله من بني ذو حسب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما أخي لامي من دونهم وأبي
فهذا القول في خاتمة أمره وفاقا لما سلف منه في مضي زمانه وحياته ، وهو محض التصديق حقيقة الإيمان ، وصريح الإسلام ، وإيمانه بالله تعالى .
وله من بعد هذا أبيات في المعنى المتقدم يطول بها التقصاص ، منها قوله في قصيدة ميمية له وقد عدد آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
فذلك من أعلامه وبيانه وليس نهار واضح كظلام.
وقوله في قصيدته الدالية :
فما يرجوا حتى رووا من محمد أحاديث تجلو غم كل فؤاد
فأما دليل توحيده لله عزوجل فمن كلامه المشهور ومقاله المعروف أكثر من أن يحصى ، وقد تقدم منه مما كتبناه ، ما سنلحقه بأمثاله له في معناه ، على سبيل الاختصار إن شاء الله .
فمن ذلك قوله في قصيدة طويلة :
مليك الناس ليس له شريك هو الوهاب والمبدي المعيد
ومن فوق السماء له ملاك ومن تحت السماء له عبيد
فأقر لله تعالى بالتوحيد ، وخلع الأنداد من دونه ، وأنه يعيد بعد الابداء ، وينشئ خلقه نشأة اخرى ، وبهذا المعنى فارق المسلمون أهل الجاهلية وباينهم فيما كانوا عليه من خلاف التوحيد والملة .
وله أيضا في قصيدة بائية :
فوالله لولا الله لا شئ غيره لا صبحتم لا تملكون لنا شربا
وأشباه ذلك ونظائره مما هو موجود في نظمه ونثره ، وفي وصاياه وسجعه في خطبه وكلامه المدون له في البلاغة والحكمة ، وإيراد جميعه يطو ل ، وفيما أثبتناه منه كفاية ، ومن دلائل إيمانه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفاية وبلاغ . والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على سيدنا محمد وآله الطاهرين ". انتهت رسالة الشيخ المفيد قدس سره الشريف .
فإن لم يكن أبو طالب مسلما بكل هذه التصريحات والشهادات بالله وبرسوله فمن ذا الذي أسلم من صحابتهم وما ذكروا عشر معشار ما جهر به سيد البطحاء وكافل النبي صلى الله عليه وآله ؟!
ولا غرابة حيث كانت الأحاديث والتواريخ قد كتبت بأقلام النواصب لعنهم الله أن يصبح أبو سفيان الطليق المحارب للإسلام وأهله مؤمنا وأبو طالب عليه السلام كافرا والعياذ بالله وهو الذي ضحى كل هذه التضحيات في سبيل الله ولنصرة نبيه وتركه الأهل والعشيرة ليعيش في شعب أبي طالب .
والحمد لله رب العالمين