مروان الغفوري
شاعر وكاتب
- التسجيل
- 13 يناير 2004
- المشاركات
- 752
- الإعجابات
- 0
[align=justify]
الخداع الضروري .. مقدمة لما بعد الديموقراطية :
... لعلّ تعريف مفردة " سياسة " بمعنى شئون المدينة / المدنيّة و تصريفاتها المختلفة ، طبقاً لأصل الكلمة اليوناني politica - أي" مدينة " ، هو التعريف الأقرب إلى جوهر الفعل السياسي و أدواته و مصائره ، فعلاً .. و هو ذات التعريف المستخلص من حديث " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلمّا مات نبيٌّ جاء آخر " .. و لأنّنا لا يمكن أن نفصل بأي شكل من الأشكال بين المدينة و المجتمع في ظل توافّر إمكانية استخدام أحد التعريفين مكان الآخر ، فليكُن إذن الفعل السياسي تصريفاً نخبويّاً للمادة البشرية ، أي : إدارة الشأن البشري العام من قبِل نخبة حاكمة وفقاً لعلاقةِ عقد اجتماعي متّفق عليه بين كلا الطرفين : حاكم ، و محكوم .
و لكي نجري تفكيكاً سريعاً لطبيعة العلاقة التي تربطُ بين النخبة المديرة للشأن العام و بين المجموع المدار ، و هي تلك العلاقة التي اصطلحنا على تسميتها بـ " الفعل السياسي " فلا بد من التركيز ، أولاً ، على منهج هذه العلاقة / الممارسة .. أعني تلك الصيغة النهائية التي وصلتنا عبر التطوير المتتالي لآليات تنظيم علاقة الحاكم بالمحكوم - الديموقراطية .. حقيقة هذه العلاقة ، و حسب ، هي ما سأتناوله أدناه ..
لا يهم - كما لن يتّسع - المقال للحديث عن تأريخ نشوء الديموقراطية ، ولا ارتقائها ، و لا حتى عن نقد أخطائها المنهجيّة التي ابتدأها تلامذة أرسطو .. فقط ، أزعم أنه من المناسب أن أشير بخفّة إلى عاملَي استحالة وجود ممارسة ديموقراطية عادلة و واقعية ، كما تقدّم لذلك أدبيات الفكر السياسي المعاصر .. هذان العاملان كانا وراء شنّ الفيلسوف روجية غارودي لحملةٍ واسعة من النقد و التشكيك في بنية الديموقراطية و تطبيقاتها المختلفة ، و هما :
1- الاختلال في توزيع الثروات .. الأمر الذي يجعل ، وفق أي مبدإٍ مدني أيّاً كانت سلطته الشعبية و القانونيّة ، وقوفَ الغني بجوار الفقير في نفس درجة الحقوق و الواجبات أمراً مستحيلاً .
2- غياب القيمة المطلقة التي تحكم نمو المجتمع و شبكة علاقاته البينيّة .. و هو ما جعل المجتمعات ، طبقاً لغارودي ، تدخل في مأزق أزلي من صراع الكل ضد الكل ، و تحوّل الفرد إلى مبدإٍ مطلق ، و القيمة الاستهلاكيّة إلى قيمة آحاد . بل وصل به الأمر إلى تقرير واقعية وثنية مفادها : لا إله إلا الدولار .. على لسان المجتمع الحضاري المعاش .
هذ العسرة تخص المنهج الديموقراطي ذاته .. و قد نتفق إلى درجةٍ ما على حقيقة أنّ الديموقراطية ، في صورتها المعاصرة ، تمثّل آخر نضوج لعلاقات النوع الإنساني ، و ليس " الأخير" كما أراد فوكوياما في " نهاية التاريخ " . و من قبله ، كارل ماركس في قراءاته التاريخية ، و استطلاعه لجوهر التاريخ الانساني العام ، و كيف يتغيّر وفقاً لصراعٍ دائمٍ يحرّكه " الثيموس " أو بحث الانسان عن استيفاء اعتباره الذاتي ، و كان أنْ قدم " ماركس " - وفقاً لهذا المبدإ - البيان الاشتراكي في عام 1849 م محاولاً الإجابة على تساؤلات الإنسان عن حقيقة الصراع و التاريخ و جدلية العلاقة بين الحاكم و المحكوم و السادة و العبيد .. ثم خلص من خلال كل ذلك إلى أن الاشتراكية قد وضعت حدّاً لهذه التساؤلات ، و من ثم لهذا الصراع الحلقي الدائر .. و رأينا من خلال جدليّاته ، و ما أعقبها من جدليات ، نموَّ فكر مضاد جعل من الديموقراطية في تطبيقاتها الغربيّة نهايةً ، أو مآلاً ، للتسلية و الخوف الإنساني ، و افترض " فوكوياما " - و هو أحد المجاهرين بهذه المبادئ - من خلال هذا مشروعه الفكري أن يدخل المجتمع العالمي مرحلة السكون الأزلي النهائي ، ففي وضعٍ ساوت فيه الديموقراطية بين السادة و العبيد في الحقوق و الواجبات ، و استطاعت أن تعلي من قيمة الفرد و أن تقضي على هاجس البحث عن الاعتبار الذاتي ، في ظل هذا الانجاز الفذ للديموقراطية - المنهج الإنساني الغربي - فإن التاريخ يتوقّف ها هنا تماماً ، و تكون ، وفقاً لفوكوياما ، الحضارة الغربيّة خياراً وحيداً لمجتمع الإنسان ..
ربما كنّا ، كمسلمين ، أسبق من ماركس و فوكوياما حين صرّحنا و بحشد من الاستدلال التاريخي و المنهجي على أن التاريخ انتهى فعلاً أثناء الخلافة الراشدة ، و بناءً عليه فإنّ فكرة " الخلافة " التي ظلّت تراود أحلام ملايين المسلمين على مدى قرون ليست إلا محاولة لإنهاء تاريخٍ سبق أن انتهى لكنه بعِث من جديد بفضل صراعات لم تحسم .. أو قُل : ظهرت من نقطة لم تكن متوقّعة ، فأعادت كرة التاريخ إلى ملعب الإنسانية من جديد ، في انتظار إجابات أخرى يطرحها هذا السباق القلق .
و لأنّ للنخبة السياسيّة رؤاها الخاصة ، التي توصفُ غالباً بأنّها ثاقبة و على دراية بتفاصيل شتّى لا يدري عنها الناخب " أو الفرد المحكوم " إلا الشيء اليسير ، لذا فإن الديموقراطية غالباً ما ستؤدي - و هذا ما يحدثُ فعلاً - إلى وضعٍ مأزوم بين ما تريده النخبة الحاكمة و ما يمكن أن يوافق عليه أو يتقبّله الجمهور المحكوم . هذا المأزق المتكرر في الممارسة الديموقراطية كان وراء إنتاج الترقيعات الجديدة التي أدرِجت ضمن الأخلاق الديموقراطية منذ عشرينات القرن المنصرم ، مثل " الخداع الضروري " و " صناعة القبول " .. و يذكرنا الأمريكي " ناعوم تشومسكي" بممارسات لا تمت للأخلاق الديموقراطية بصلة ، وفّرتها هذه المعالجات و الترميمات الجديدة على غرار " الخداع الضروري " .. أي تكييف الذهن الجماعي على تقبّل أمرٍ ما عبر طرق و وسائطٍ تؤدي عملاً وظيفيّاً محصلته الأخيرة : نفاذ الرؤية النخبوية الثاقبة .. بمعنى : تزييف وعي الجمهور الذي يتمتّع بقدر كبير من الجهل بمصالحه العليا لتحقيق مصلحته أولاً و آخراً .. و ربما ضرب لنا أمثلةً عدّة لم تعُد ماثلةً في الذاكرة الأمريكيّة ، كموقف أمريكا من الحربين العالميتين ، لكن ما يمثّل لفتةً أكثر حضوراً هو كشفه لحقيقة الاستطلاع الذي أجرته صحيفة أمريكية كبرى عن موقف الجمهور الأمريكي من حرب العراق . كانت عبارات الاستطلاع كالتالي : هل تؤيّد حرب قوّاتنا في العراق ؟ و بالتالي فإن الأمريكي الوطني لن يجد بدّاً من أن يجيب بقوله : نعم .. فالاستطلاع يقول " قواتنا " و قبلها يقول " حرب " فلا بد إذن من أن تفوز " قواتنا " في هذه الحرب .. ليس لشيءٍ و إنما لأنها " نا " و لأنّ هناك " حرب " ! في حين أن الممارسة الديموقراطية السليمة التي تحافظ على وعي الجمهور من الزيف تقتضي أن يكتب الاستطلاع كالتالي : هل تؤيد الحرب في العراق .. هنا يبدو السؤالُ مجرّداً من العاطفة ، و أقرب إلى اختبار الموقف الواعي ، و ليس الوطني .
و يتوّلد هنا سؤال عن " الضروري " .. و ما سيتعلّق به من تشابكات لا حصر لها . فما " الضروري " و من الذي يحكم هذه " الضرورة " .. ؟ أليس في مثل هذه التكييفات للممارسة الديموقراطية وصايةً غير مبرّرة على وعي الجمهور ؟ ثم أليست هذه الوصاية المقنّعة شبيهةً تماماً بممارسات حكومات العالم الثالث التي تعلن عن مثل هذه الممارسات صراحةً في مساقات أحاديث الساسة عن مرحلية الاصلاح السياسي و الظروف الخاصة ، و النضج الشعبي لاستيعاب حقائق و مدركات الفعل السياسي ؟ ..
هي كذلك تماماً ..
إذن ، فنحنُ أمام ديموقراطيّة مكيافيللية ! و إذا كان الفكر المكيافيللي قد نشأ في أوساط قلقة لخدمة الدولة في مواجهة اضطرابات عنيفة ، أي : كمحاولة تأصيلية من قِبل مكيافيللي للحفاظ على مشروع الدولة قام ، هو ، بابتداع منهج " الغاية تبرر الوسيلة " إلا أنّ المشاهَد هو تحول هذا الفكر من تعاطي استثنائي مع ظروف قلقة إلى ممارسة مستمرّة ، و منهج واقعي صرف .
هي ، إذن ، صناعة القبول ، أو لنسمّها باسمها الأوضح : الخداع الضروري .. الديموقراطي !!
في الجانب الآخر ، التقط روجيه غارودي في " حفارو القبور " مشهداً أكثر دلالة على صناعة القبول - الخداع الضروري ، فالرئيس الأمريكي " بل كلنتون " الذي حكم الأمة الأمريكية الكبيرة لثمان سنين لم يحظَ بأكثر من 15 % من أصوات من يمتلكون حق التصويت .. و بعيداً عن " النسبة " الكبيرة التي حققها عبر الصناديق ، فإنّ الحقيقة أنّ الذين توجّهوا للصناديق - في الأساس - لم يكونوا أكثر من ثلثي المسجّلين ، في حين لم تتجاوز نسبةُ المسجّلين ضمن كشوفات الانتخابات ثلثَ من لهم هذا الحق ! . فالصورة ، كما أسلفنا ، تزييف لحقيقة مهمّة و هي فاعلية الديموقراطية الحقيقية و إمكاناتها الإصلاحية ، تلك التي جعلت رجلاً لم يصوّت عليه أكثر من 15% من مواطنيه أصحاب ذلك الحق " التصويت " يحكم بلداً بحجم الولايات المتّحدة و لمدّة ثمان سنوات . إنهُ الحداعُ الضروري و حسب .
لنصِل الآن إلى تحديد ديكارتي للعلاقة بين الحكم و المحكوم : الديموقراطية . فالبرغم من أنها نتيجة لعقد اجتماعي ، أو مؤدّية إليه ، و أنها علاقة مدنية يحميها القانون القومي الخاص إلا أن الممارسة غير الأخلاقية لهذا الفعل و الناتجة ، في الأساس ، عن قصور في قدرة الفلسفة الديموقراطية على الإجابة عن كل التساؤلات التي تنمو بفعل نمو هذا المجتمع البشري الهائل ، هذه الممارسات تفترض صورةً محددة أمامنا جميعاً كالتالي : علاقة قلقة قابلة للتكييف و التحوير طبقاً لرؤية نخبة حاكمة تعملُ لحساب خاص ، لا فرق بين كونه " شركةً مالية " أو " نهج إيديلوجي " .. و أن محصلة الممارسة الديموقراطية تقودنا عبر رؤى تفكيكية واعية إلى مشاهدة عصابات نيويورك ، و قبائل الفايكنج و غارات بني مرّة و غيرها من الأنساق الهمجيّة الأولى .. نراها من جديد ، بصورة محدّثة لكنها دلاليّة جدّاً ..فهل سنشهد عهداً جديداً اسمه : post-democracy أو ما بعد الديموقراطية ، على غرار نظريات ما بعد الحداثة ، لإنتاج علاقة نظيفة بين الحاكم و المحكوم بعد أن عجزت الديموقراطية عن تقديم مثل هذه العلاقة المرجوّة ؟ ..
يظلّ مجردً سؤال ، أو هاجسٍ كوني ..
****
بقلم / مروان الغفوري
القاهرة
الخداع الضروري .. مقدمة لما بعد الديموقراطية :
... لعلّ تعريف مفردة " سياسة " بمعنى شئون المدينة / المدنيّة و تصريفاتها المختلفة ، طبقاً لأصل الكلمة اليوناني politica - أي" مدينة " ، هو التعريف الأقرب إلى جوهر الفعل السياسي و أدواته و مصائره ، فعلاً .. و هو ذات التعريف المستخلص من حديث " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلمّا مات نبيٌّ جاء آخر " .. و لأنّنا لا يمكن أن نفصل بأي شكل من الأشكال بين المدينة و المجتمع في ظل توافّر إمكانية استخدام أحد التعريفين مكان الآخر ، فليكُن إذن الفعل السياسي تصريفاً نخبويّاً للمادة البشرية ، أي : إدارة الشأن البشري العام من قبِل نخبة حاكمة وفقاً لعلاقةِ عقد اجتماعي متّفق عليه بين كلا الطرفين : حاكم ، و محكوم .
و لكي نجري تفكيكاً سريعاً لطبيعة العلاقة التي تربطُ بين النخبة المديرة للشأن العام و بين المجموع المدار ، و هي تلك العلاقة التي اصطلحنا على تسميتها بـ " الفعل السياسي " فلا بد من التركيز ، أولاً ، على منهج هذه العلاقة / الممارسة .. أعني تلك الصيغة النهائية التي وصلتنا عبر التطوير المتتالي لآليات تنظيم علاقة الحاكم بالمحكوم - الديموقراطية .. حقيقة هذه العلاقة ، و حسب ، هي ما سأتناوله أدناه ..
لا يهم - كما لن يتّسع - المقال للحديث عن تأريخ نشوء الديموقراطية ، ولا ارتقائها ، و لا حتى عن نقد أخطائها المنهجيّة التي ابتدأها تلامذة أرسطو .. فقط ، أزعم أنه من المناسب أن أشير بخفّة إلى عاملَي استحالة وجود ممارسة ديموقراطية عادلة و واقعية ، كما تقدّم لذلك أدبيات الفكر السياسي المعاصر .. هذان العاملان كانا وراء شنّ الفيلسوف روجية غارودي لحملةٍ واسعة من النقد و التشكيك في بنية الديموقراطية و تطبيقاتها المختلفة ، و هما :
1- الاختلال في توزيع الثروات .. الأمر الذي يجعل ، وفق أي مبدإٍ مدني أيّاً كانت سلطته الشعبية و القانونيّة ، وقوفَ الغني بجوار الفقير في نفس درجة الحقوق و الواجبات أمراً مستحيلاً .
2- غياب القيمة المطلقة التي تحكم نمو المجتمع و شبكة علاقاته البينيّة .. و هو ما جعل المجتمعات ، طبقاً لغارودي ، تدخل في مأزق أزلي من صراع الكل ضد الكل ، و تحوّل الفرد إلى مبدإٍ مطلق ، و القيمة الاستهلاكيّة إلى قيمة آحاد . بل وصل به الأمر إلى تقرير واقعية وثنية مفادها : لا إله إلا الدولار .. على لسان المجتمع الحضاري المعاش .
هذ العسرة تخص المنهج الديموقراطي ذاته .. و قد نتفق إلى درجةٍ ما على حقيقة أنّ الديموقراطية ، في صورتها المعاصرة ، تمثّل آخر نضوج لعلاقات النوع الإنساني ، و ليس " الأخير" كما أراد فوكوياما في " نهاية التاريخ " . و من قبله ، كارل ماركس في قراءاته التاريخية ، و استطلاعه لجوهر التاريخ الانساني العام ، و كيف يتغيّر وفقاً لصراعٍ دائمٍ يحرّكه " الثيموس " أو بحث الانسان عن استيفاء اعتباره الذاتي ، و كان أنْ قدم " ماركس " - وفقاً لهذا المبدإ - البيان الاشتراكي في عام 1849 م محاولاً الإجابة على تساؤلات الإنسان عن حقيقة الصراع و التاريخ و جدلية العلاقة بين الحاكم و المحكوم و السادة و العبيد .. ثم خلص من خلال كل ذلك إلى أن الاشتراكية قد وضعت حدّاً لهذه التساؤلات ، و من ثم لهذا الصراع الحلقي الدائر .. و رأينا من خلال جدليّاته ، و ما أعقبها من جدليات ، نموَّ فكر مضاد جعل من الديموقراطية في تطبيقاتها الغربيّة نهايةً ، أو مآلاً ، للتسلية و الخوف الإنساني ، و افترض " فوكوياما " - و هو أحد المجاهرين بهذه المبادئ - من خلال هذا مشروعه الفكري أن يدخل المجتمع العالمي مرحلة السكون الأزلي النهائي ، ففي وضعٍ ساوت فيه الديموقراطية بين السادة و العبيد في الحقوق و الواجبات ، و استطاعت أن تعلي من قيمة الفرد و أن تقضي على هاجس البحث عن الاعتبار الذاتي ، في ظل هذا الانجاز الفذ للديموقراطية - المنهج الإنساني الغربي - فإن التاريخ يتوقّف ها هنا تماماً ، و تكون ، وفقاً لفوكوياما ، الحضارة الغربيّة خياراً وحيداً لمجتمع الإنسان ..
ربما كنّا ، كمسلمين ، أسبق من ماركس و فوكوياما حين صرّحنا و بحشد من الاستدلال التاريخي و المنهجي على أن التاريخ انتهى فعلاً أثناء الخلافة الراشدة ، و بناءً عليه فإنّ فكرة " الخلافة " التي ظلّت تراود أحلام ملايين المسلمين على مدى قرون ليست إلا محاولة لإنهاء تاريخٍ سبق أن انتهى لكنه بعِث من جديد بفضل صراعات لم تحسم .. أو قُل : ظهرت من نقطة لم تكن متوقّعة ، فأعادت كرة التاريخ إلى ملعب الإنسانية من جديد ، في انتظار إجابات أخرى يطرحها هذا السباق القلق .
و لأنّ للنخبة السياسيّة رؤاها الخاصة ، التي توصفُ غالباً بأنّها ثاقبة و على دراية بتفاصيل شتّى لا يدري عنها الناخب " أو الفرد المحكوم " إلا الشيء اليسير ، لذا فإن الديموقراطية غالباً ما ستؤدي - و هذا ما يحدثُ فعلاً - إلى وضعٍ مأزوم بين ما تريده النخبة الحاكمة و ما يمكن أن يوافق عليه أو يتقبّله الجمهور المحكوم . هذا المأزق المتكرر في الممارسة الديموقراطية كان وراء إنتاج الترقيعات الجديدة التي أدرِجت ضمن الأخلاق الديموقراطية منذ عشرينات القرن المنصرم ، مثل " الخداع الضروري " و " صناعة القبول " .. و يذكرنا الأمريكي " ناعوم تشومسكي" بممارسات لا تمت للأخلاق الديموقراطية بصلة ، وفّرتها هذه المعالجات و الترميمات الجديدة على غرار " الخداع الضروري " .. أي تكييف الذهن الجماعي على تقبّل أمرٍ ما عبر طرق و وسائطٍ تؤدي عملاً وظيفيّاً محصلته الأخيرة : نفاذ الرؤية النخبوية الثاقبة .. بمعنى : تزييف وعي الجمهور الذي يتمتّع بقدر كبير من الجهل بمصالحه العليا لتحقيق مصلحته أولاً و آخراً .. و ربما ضرب لنا أمثلةً عدّة لم تعُد ماثلةً في الذاكرة الأمريكيّة ، كموقف أمريكا من الحربين العالميتين ، لكن ما يمثّل لفتةً أكثر حضوراً هو كشفه لحقيقة الاستطلاع الذي أجرته صحيفة أمريكية كبرى عن موقف الجمهور الأمريكي من حرب العراق . كانت عبارات الاستطلاع كالتالي : هل تؤيّد حرب قوّاتنا في العراق ؟ و بالتالي فإن الأمريكي الوطني لن يجد بدّاً من أن يجيب بقوله : نعم .. فالاستطلاع يقول " قواتنا " و قبلها يقول " حرب " فلا بد إذن من أن تفوز " قواتنا " في هذه الحرب .. ليس لشيءٍ و إنما لأنها " نا " و لأنّ هناك " حرب " ! في حين أن الممارسة الديموقراطية السليمة التي تحافظ على وعي الجمهور من الزيف تقتضي أن يكتب الاستطلاع كالتالي : هل تؤيد الحرب في العراق .. هنا يبدو السؤالُ مجرّداً من العاطفة ، و أقرب إلى اختبار الموقف الواعي ، و ليس الوطني .
و يتوّلد هنا سؤال عن " الضروري " .. و ما سيتعلّق به من تشابكات لا حصر لها . فما " الضروري " و من الذي يحكم هذه " الضرورة " .. ؟ أليس في مثل هذه التكييفات للممارسة الديموقراطية وصايةً غير مبرّرة على وعي الجمهور ؟ ثم أليست هذه الوصاية المقنّعة شبيهةً تماماً بممارسات حكومات العالم الثالث التي تعلن عن مثل هذه الممارسات صراحةً في مساقات أحاديث الساسة عن مرحلية الاصلاح السياسي و الظروف الخاصة ، و النضج الشعبي لاستيعاب حقائق و مدركات الفعل السياسي ؟ ..
هي كذلك تماماً ..
إذن ، فنحنُ أمام ديموقراطيّة مكيافيللية ! و إذا كان الفكر المكيافيللي قد نشأ في أوساط قلقة لخدمة الدولة في مواجهة اضطرابات عنيفة ، أي : كمحاولة تأصيلية من قِبل مكيافيللي للحفاظ على مشروع الدولة قام ، هو ، بابتداع منهج " الغاية تبرر الوسيلة " إلا أنّ المشاهَد هو تحول هذا الفكر من تعاطي استثنائي مع ظروف قلقة إلى ممارسة مستمرّة ، و منهج واقعي صرف .
هي ، إذن ، صناعة القبول ، أو لنسمّها باسمها الأوضح : الخداع الضروري .. الديموقراطي !!
في الجانب الآخر ، التقط روجيه غارودي في " حفارو القبور " مشهداً أكثر دلالة على صناعة القبول - الخداع الضروري ، فالرئيس الأمريكي " بل كلنتون " الذي حكم الأمة الأمريكية الكبيرة لثمان سنين لم يحظَ بأكثر من 15 % من أصوات من يمتلكون حق التصويت .. و بعيداً عن " النسبة " الكبيرة التي حققها عبر الصناديق ، فإنّ الحقيقة أنّ الذين توجّهوا للصناديق - في الأساس - لم يكونوا أكثر من ثلثي المسجّلين ، في حين لم تتجاوز نسبةُ المسجّلين ضمن كشوفات الانتخابات ثلثَ من لهم هذا الحق ! . فالصورة ، كما أسلفنا ، تزييف لحقيقة مهمّة و هي فاعلية الديموقراطية الحقيقية و إمكاناتها الإصلاحية ، تلك التي جعلت رجلاً لم يصوّت عليه أكثر من 15% من مواطنيه أصحاب ذلك الحق " التصويت " يحكم بلداً بحجم الولايات المتّحدة و لمدّة ثمان سنوات . إنهُ الحداعُ الضروري و حسب .
لنصِل الآن إلى تحديد ديكارتي للعلاقة بين الحكم و المحكوم : الديموقراطية . فالبرغم من أنها نتيجة لعقد اجتماعي ، أو مؤدّية إليه ، و أنها علاقة مدنية يحميها القانون القومي الخاص إلا أن الممارسة غير الأخلاقية لهذا الفعل و الناتجة ، في الأساس ، عن قصور في قدرة الفلسفة الديموقراطية على الإجابة عن كل التساؤلات التي تنمو بفعل نمو هذا المجتمع البشري الهائل ، هذه الممارسات تفترض صورةً محددة أمامنا جميعاً كالتالي : علاقة قلقة قابلة للتكييف و التحوير طبقاً لرؤية نخبة حاكمة تعملُ لحساب خاص ، لا فرق بين كونه " شركةً مالية " أو " نهج إيديلوجي " .. و أن محصلة الممارسة الديموقراطية تقودنا عبر رؤى تفكيكية واعية إلى مشاهدة عصابات نيويورك ، و قبائل الفايكنج و غارات بني مرّة و غيرها من الأنساق الهمجيّة الأولى .. نراها من جديد ، بصورة محدّثة لكنها دلاليّة جدّاً ..فهل سنشهد عهداً جديداً اسمه : post-democracy أو ما بعد الديموقراطية ، على غرار نظريات ما بعد الحداثة ، لإنتاج علاقة نظيفة بين الحاكم و المحكوم بعد أن عجزت الديموقراطية عن تقديم مثل هذه العلاقة المرجوّة ؟ ..
يظلّ مجردً سؤال ، أو هاجسٍ كوني ..
****
بقلم / مروان الغفوري
القاهرة